اختلال التركيبة السكانية في دول الخليج وأثره الاقتصادي

بقلم/ د. محمد غازي المهنا
دكتوراة في الرقابة القانونية على هيئة سوق المال m7md_almuhanna@hotmail.com
تتميز دول الخليج العربية باحتضانها أعدادًا كبيرة من العمالة الوافدة، لا سيما تلك القادمة من القارة الآسيوية، وهو ما يُعَدُّ أمرًا لافتًا في هذا الزمن الذي يشهد فرض بعض الدول، لا سيما الأوروبية، قيودًا على دخول ما يُعرف بالمهاجرين الاقتصاديين.
وتعتمد دول الخليج اعتمادًا أساسيًا على العمالة الوافدة، حيث يبلغ عدد العاملين الأجانب في الدول الخليجية حوالي 12 مليون عامل، معظمهم من الدول الآسيوية، ويرتفع هذا العدد بمعدل نمو سنوي يُقدَّر بنحو 5%. وبالتالي، من المتوقع أن يصل العدد إلى 18 مليون عامل خلال عشر سنوات. ويُقدَّر عدد سكان دول الخليج بحوالي 35 مليون نسمة، أي إن العمالة الوافدة ستمثل ما يزيد على 51% من إجمالي السكان في دول مجلس التعاون.
وعلى الرغم من أن العمالة الوطنية تُعَدُّ أول المتضررين من تزايد العمالة الوافدة، فإنها شاركت بشكل أساسي في هذا التزايد، وذلك للأسباب الآتية:
* تركز العمالة الوطنية في الوظائف الحكومية التي تُعَدُّ الأعلى راتبًا والأكثر استقرارًا وراحة، مع العزوف عن غيرها من الوظائف.
* إقبال المواطنين على الدراسة في مجالات لا يحتاجها سوق العمل.
* عزوف المواطنين عن العمل في المهن متدنية المستوى أو منخفضة الراتب، مثل الوظائف الفنية والحرفية والخدمية، في حين تقبل العمالة الوافدة بالعمل في هذه المهن.
* تركز العمالة الوطنية في المناطق الحضرية الرئيسية ورفضها العمل في مناطق أخرى.
* حاجة العمالة الوطنية إلى التدريب، في مقابل استقدام دول الخليج عمالة وافدة ماهرة.
وبالإضافة إلى تلك العوامل، توجد بيئة محيطة تشجع على زيادة الاعتماد على العمالة الوافدة على حساب العمالة الوطنية، ومن أهم مظاهرها:
* عدم تكافؤ الفرص في العمل بين الرجل والمرأة، رغم زيادة إقبال المرأة الخليجية على التعليم.
* رفض القطاع الخاص توظيف العمالة الوطنية، إذ يعتبر الخريجين غير مؤهلين بسبب مناهج التعليم، فضلًا عن تخوفه من تكاليف تدريب المواطنين، إضافة إلى سهولة الاستغناء عن العمالة الوافدة مقارنة بالعمالة الوطنية.
* عدم رغبة العمالة الوافدة في المواقع المختلفة في تدريب العمالة الوطنية الداخلة حديثًا إلى العمل، خوفًا من أن تحل محلها.
ومع تزايد أعداد الوافدين إلى منطقة الخليج، ظهرت العديد من الآثار السلبية، من أبرزها استنزاف الموارد الاقتصادية للدول من خلال تحويل العمالة الوافدة لرواتبها إلى الخارج، مما يؤثر سلبًا في ميزان المدفوعات، الذي يشهد نزيفًا مستمرًا نتيجة تحويلات العاملين. وقد أدى ذلك إلى انخفاض فائض الحساب الجاري بنسبة كبيرة، حيث بلغت قيمة تحويلات العاملين في دول الخليج نحو 30 مليار دولار عام 2004، مقارنة بنحو 27 مليار دولار عام 2002.
وقد بلغت التحويلات من السعودية وحدها نحو 63% من إجمالي التحويلات عام 2004، بقيمة تُقدَّر بنحو 19 مليار دولار، بينما بلغت في الإمارات نحو 15%، بقيمة تقارب 4.5 مليارات دولار، وفي باقي دول المجلس 22%، بواقع 6.5 مليارات دولار. هذا فضلًا عن التحويلات غير الرسمية التي بلغت نحو 5.4 مليارات دولار عام 2004. وشكلت هذه التحويلات ما نسبته 8% من الناتج المحلي الإجمالي لدول الخليج.
ولم يقتصر الأمر على الآثار المالية المتمثلة في خروج رواتب العمالة من الدورة الاقتصادية لدول الخليج، بل امتد أثرها لتكون أحد العوامل الرئيسة في ظهور مشكلة تُعَدُّ من أهم التحديات التي تواجه المنطقة حاليًا، وهي التنافس بين العمالة الوطنية، ولا سيما خريجي الجامعات والمدارس، وذلك نتيجة زيادة النمو السكاني وتزايد العمالة الوافدة المدربة التي تحل محل العمالة الوطنية، في الوقت الذي توقف فيه القطاع الحكومي عن تعيين المزيد من الموظفين بسبب عدم قدرته على سداد رواتبهم، ومعاناته من التضخم الوظيفي.
وفي ضوء هذه الآثار السلبية للعمالة الوافدة، كان لا بد من تبني استراتيجية وطنية تهدف إلى توطين العمالة الوطنية محل العمالة الوافدة، وذلك من خلال:
* تدريب العمالة الوطنية وإعدادها لسد احتياجات سوق العمل، حيث يُنفق أكثر من بليون دولار سنويًا على برامج التدريب والتأهيل.
* الحد من مدة إقامة العمالة الوافدة، بحيث تكون إقامة مؤقتة لا دائمة، إذ تتراوح في دول الخليج بين أربع وخمس سنوات.
* إعادة تدوير رواتب العمالة الوافدة في دورة الدخل والإنتاج من خلال وضع آليات استثمارية توظف مدخراتهم بما يخدم اقتصاديات دول الخليج ويحقق مصلحة للمودعين الوافدين، عبر إتاحة فرص ادخارية ذات عائد مجزٍ في المصارف الخليجية.
* منح مزيد من الحوافز، كالإعفاءات الضريبية والمزايا الأخرى، لتشجيع القطاع الخاص على توظيف مزيد من الأيدي العاملة الوطنية.
* غرس وتنمية مفاهيم الانتماء والمواطنة وقيم العمل، للحد من الأفكار السلبية التقليدية السائدة في المجتمع، سواء عبر وسائل الإعلام أو المؤسسات التعليمية المختلفة
تُعَدّ العمالة الوافدة في دول الخليج «إضافة» من حيث سد النقص في الأيدي العاملة وتنفيذ المشاريع الضخمة، لكنها في المقابل تُعَدّ «نقصانًا» من زاوية تحديات التوطين، والضغط على البنية التحتية، والتحويلات المالية، وتأثيرها في التركيبة السكانية. وهذا ما يتطلب تحقيق توازن بين الاستفادة من هذه العمالة ومعالجة آثارها السلبية من خلال سياسات توطين فعّالة وتطوير الكوادر الوطنية.
أوجه الإضافة (الفوائد):
* تلبية احتياجات سوق العمل: تسد العمالة الوافدة الفجوة الكبيرة في الأيدي العاملة في مختلف القطاعات، لا سيما في المشاريع التنموية والبنية التحتية.
* تحقيق النمو الاقتصادي: تسهم في تنفيذ المشاريع وتدعم النمو الاقتصادي لدول مجلس التعاون، خاصة في ظل قلة أعداد المواطنين في بعض القطاعات.
* توفير الكفاءات المتخصصة: تتيح عمالة متخصصة في مجالات فنية وتقنية لا تتوفر محليًا بالقدر الكافي.
أوجه النقصان (التحديات):
* الخلل السكاني والتركيبة السكانية: أدت الأعداد الكبيرة للعمالة الوافدة إلى اختلال في التركيبة السكانية في بعض الدول.
* التحويلات المالية: تمثل التحويلات النقدية الضخمة للعمالة الوافدة تحديًا اقتصاديًا يؤثر في الدورة المالية المحلية.
* الضغط على الخدمات: تزيد من الضغط على الخدمات العامة والبنية التحتية.
* تحدي التوطين: تنشأ منافسة بين الوافدين والمواطنين، رغم وجود سياسات حكومية تهدف إلى تقليل نسب العمالة الوافدة وزيادة توظيف المواطنين.
التوازن المطلوب:
تسعى دول الخليج إلى تحقيق توازن من خلال تبني سياسات التوطين لزيادة مشاركة المواطنين في سوق العمل، مع الاستفادة من العمالة الوافدة المتخصصة في تنفيذ الخطط التنموية، وذلك وفق ما تشير إليه التقارير الإحصائية والاقتصادية.
كم عدد العمال المهاجرين في الخليج؟
بحسب إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية التابعة للأمم المتحدة، بلغ عدد العمال المهاجرين الدوليين في الدول العربية عام 2020 نحو 41.4 مليون عامل، وهو ما يمثل حوالي 15% من إجمالي العمال المهاجرين في العالم. وتستضيف دول مجلس التعاون الخليجي وحدها ما يقارب 31 مليون عامل مهاجر يعملون في مختلف القطاعات.
وفي دول الخليج الغنية بالنفط، تصل نسب البطالة بين فئة الشباب إلى مستويات قياسية تُعد من بين الأعلى عالميًا؛ إذ تبلغ نحو 28.7% في السعودية، وحوالي 20% في الكويت وعُمان والبحرين، ونحو 10% في الإمارات. ويجدر الانتباه إلى أن دول الخليج كانت توفر تاريخيًا فرص عمل للمواطنين في القطاع الحكومي بأجور مجزية، ضمن جهاز إداري مترهل يعاني من البطالة المقنّعة، إلى جانب نمط حياة مدعوم في السكن والكهرباء والمياه. وقد أسهم ذلك في ترسيخ ثقافة استهلاكية غير منتجة، أدت إلى عزوف المواطنين عن العمل في القطاع الخاص، وإضعاف ثقافة العمل والإنتاج لديهم.
في البداية، تبدو نسب البطالة في دول الخليج مضللة ولا يمكن الاعتماد عليها بصورة كاملة، إذ تفتقر إلى الموضوعية، خصوصًا أن الحكومات وحدها المخوّلة بجمع البيانات واحتساب أعداد الباحثين عن عمل ونسبتهم من إجمالي القوى العاملة. ومن جهة أخرى، يشكّل الوافدون أغلبية العمالة في سوق العمل، إذ يزيد عددهم على 20 مليون عامل مقيم بصورة نظامية، ويتم احتسابهم ضمن فئة المشتغلين. ويمثل الوافدون ما لا يقل عن ثلثي إجمالي القوى العاملة في دول مجلس التعاون، وترتفع النسبة إلى 85% و90% في كل من قطر والإمارات.
وتظهر معدلات البطالة من إجمالي السكان منخفضة نسبيًا، لأن الغالبية العظمى من القوى العاملة هي من الأجانب، ولأن العامل الوافد الذي لا يعمل لا يحق له البقاء في البلد وفق نظام الكفالة. لذلك، وعند احتساب البطالة بين المواطنين، وخصوصًا فئة الشباب، ترتفع النسب بشكل ملحوظ، بما يعكس بصورة أوضح عمق الخلل الهيكلي في المنظومة الاقتصادية وسوق العمل.
وتعكس البيانات الصادرة عن المركز الإحصائي لدول الخليج صدمة حقيقية من حيث حجم الضرر الواقع على المواطنين؛ إذ تشير إلى وجود نحو 22.2 مليون مشتغل في دول الخليج حتى أبريل 2020، يشكل المواطنون منهم حوالي 7 ملايين مشتغل فقط، في حين يبلغ عدد العمالة الوافدة نحو 15 مليون عامل. ولا تشمل هذه الإحصاءات دولة الإمارات العربية المتحدة، التي تضم ثاني أكبر تجمع للعمالة الوافدة في الخليج، حيث يتجاوز عددهم 8.8 ملايين عامل، أي أكثر من 85% من إجمالي السكان.
وإذا ما أُضيفت أعداد العمالة الوافدة في الإمارات إلى بقية دول مجلس التعاون، فإن الإجمالي يصل إلى نحو 23.8 مليون وافد، أي ما يزيد على ثلاثة أضعاف عدد المواطنين العاملين في دول الخليج
البطالة الهيكلية
للبطالة أشكال مختلفة، فمنها ما هو مؤقت أو ظرفي، ناتج عن الأزمات المالية أو تراجع النشاط الاقتصادي، ومنها ما هو هيكلي (Structural Unemployment) يرتبط ببنية النظام الاقتصادي. ورغم خطورة النوع الأول، فإن الدول غالبًا ما تتعافى منه مع عودة النمو الاقتصادي إلى مستوياته الطبيعية. أما البطالة الهيكلية، فهي بطالة طويلة الأجل، تعود أسبابها إلى اختلالات متجذرة في سوق العمل، ويصعب القضاء عليها دون اللجوء إلى معالجات هيكلية شاملة.
ويمكن القول إن البطالة التي تعاني منها دول الخليج تندرج ضمن هذا النوع الثاني، إذ إن أعداد العاطلين عن العمل في ارتفاع مستمر خلال السنوات الماضية، بغض النظر عن تقلبات أسعار النفط. وتحاول الحكومات التخفيف من حدة الأزمة من خلال التوظيف في القطاعات العسكرية والأمنية وبعض الجهات الحكومية، رغم عدم وجود حاجة فعلية في كثير من الأحيان، وهو ما يؤدي إلى استنزاف الموازنات العامة، وتوجيه الجزء الأكبر منها إلى بند الرواتب. وقد تتفاقم هذه السياسات لتؤدي إلى عجز مالي وتضخم في الدين العام، كما هو الحال في سلطنة عُمان، حيث بلغ الدين العام نحو 56 مليار دولار، أي ما يقارب 21 مليار ريال عُماني، وفي البحرين التي ارتفع فيها الدين العام إلى أكثر من 133% من الناتج المحلي الإجمالي، وفقًا لصندوق النقد الدولي عام 2019. ومن المرجح أن تكون هذه الأرقام قد ارتفعت بعد جائحة كورونا.
وعلى مدى أعوام مضت، لم تُسهم جهود المؤسسات الحكومية في دول الخليج في حل مشكلة البطالة بشكل جذري، بل اقتصرت في معظمها على حلول مؤقتة زادت من تعقيد الوضع، ليصبح أشبه بـ«كرة ثلج» تكبر مع مرور الوقت ويصعب إيقافها. وبما أن أسباب أزمة البطالة في دول الخليج هي أسباب هيكلية، فإن معالجتها يجب أن تكون هي الأخرى هيكلية.
وعليه، يمكن تقسيم الحلول إلى ثلاث مسارات رئيسية: قصيرة المدى، ومتوسطة المدى، وطويلة المدى، على أن تبدأ الحكومات بتطبيقها بشكل متزامن منذ اللحظة الراهنة، لتفادي تعاظم الأزمة وتعمق آثارها.
تتمثل الحلول قصيرة المدى في الإحلال المباشر، إلى جانب وقف نشاط شركات التوظيف، وتقييد منح تأشيرات العمل الجديدة إلا في حالات الضرورة القصوى. ويُفضَّل البدء بالإحلال في القطاع الحكومي، نظرًا لسهولة التطبيق وإمكانية حصر الوظائف المستهدفة، وكذلك الحال في القطاع الخاص، الذي ينبغي توجيهه للمساهمة الفاعلة في تقليص الأزمة عبر إعطاء أولوية التوظيف للمواطنين. ورغم أهمية هذه الإجراءات في التخفيف من حدة الأزمة على المدى القريب، فإنها تظل غير كافية على المدى البعيد، ما لم تُرافقها إصلاحات هيكلية شاملة تعالج جذور المشكلة
ونستخلص مما جاء بالمقالة أن
العمالة الوافدة سلاح ذو حدين؛ فهي ضرورة للتنمية الاقتصادية، إلا أن الاعتماد المفرط عليها يخلق تحديات اجتماعية واقتصادية تتطلب سياسات متوازنة لإدارة أعدادها ونوعيتها، مع التركيز على تطوير الكوادر الوطنية وتوطين الوظائف.




