مقالات

الاقتصاد الأمريكي: تحديات النمو والرفاهية

 

تكشف نتائج الانتخابات الأمريكية الأخيرة، التي شهدت صعود وجوه جديدة تركز على القضايا المعيشية، عن تحوّل عميق لا يمكن قراءته سياسياً فقط. فعمق التحولات الاقتصادية والاجتماعية كان المحرك الأبرز خلف موجة التغيير هذه، وهو ما يفسّر إقبالاً انتخابياً مرتفعاً، وتحوّل المزاج العام نحو مرشحين قادرين على التعامل مع تحديات معيشية تضغط بشدة على المواطن الأمريكي.

اقتصاد قوي في الظاهر…

على الرغم من صمود المؤشرات الاقتصادية الكلية، مثل نمو الناتج المحلي الإجمالي ومعدلات البطالة المنخفضة، إلا أنّ الواقع الاجتماعي يعكس صورة أكثر قسوة وتفاوتاً. هذا التناقض بين الأداء الكلي والرفاهية الفردية يشير إلى اختلال هيكلي يفصل بين نمو الثروة الوطنية وضعف قدرة الأسر على تحقيق أمن مالي أساسي.

ويتجلى هذا التناقض في عدة مؤشرات اجتماعية واقتصادية مقلقة. ففي الجانب الإنساني، يعتمد حوالي 41.7 مليون شخص شهرياً على برنامج المساعدة الغذائية التكميلية (SNAP)، وهو ما يعكس اتساع قاعدة الاعتماد على شبكات الأمان الاجتماعي، ويشير بوضوح إلى أن النمو الاقتصادي لا يترجم إلى أمن غذائي مستدام للجميع. أما على صعيد الهشاشة المالية، فإن حوالي 47% من البالغين لا يستطيعون تغطية نفقات طارئة بقيمة 400 دولار بسهولة، مما يدل على هشاشة مالية واسعة النطاق، حيث أن صدمة مالية بسيطة قد تدفع ملايين الأسر إلى الإفلاس أو الديون. ويضاف إلى ذلك، العبء الهائل لديون الطلاب الذي تجاوز 1.77 تريليون دولار، وهو ما يمثل عبئاً مالياً ضخماً على جيل الشباب، ويؤدي إلى تأجيل شراء المنازل وتقليص الادخار والاستهلاك، مما يهدد محرك النمو الأمريكي على المدى الطويل.

 

التضخم يعيد تشكيل سلوك الناخب

خلال العامين الماضيين، أحدث التضخم موجة ضغط هائلة على الأجور الحقيقية، مما أدى إلى تآكل القوة الشرائية للطبقة الوسطى والشباب. وقد تجلى هذا الضغط في:

 

1- أزمة السكن: ارتفاع أسعار السكن والإيجارات إلى مستويات قياسية، مما جعل متوسط عمر مشتري المنزل لأول مرة يبلغ 40 عاماً — وهو أعلى مستوى تاريخي. هذا يحد من تكوين الثروة للأجيال الجديدة.

2- تآكل الأجور الحقيقية: رغم الزيادات الاسمية في الأجور، فإن التضخم، خاصة في قطاعات الغذاء والطاقة، قد قلّص من القدرة الشرائية الفعلية، مما دفع بقضايا القدرة على تحمّل تكاليف المعيشة لتكون محوراً مركزياً في الحملات الانتخابية.

 

سوق العمل: قوة ظاهرية… وضعف فعلي

إن معدلات البطالة المنخفضة تخفي وراءها تحولاً نوعياً في سوق العمل يخدم الشركات على حساب العمال. فغالبية الوظائف الجديدة هي منخفضة الأجر أو جزئية ومؤقتة، مما يقلل من الاستقرار المالي والوظيفي. تستفيد الشركات من زيادة الإنتاجية بفضل التكنولوجيا دون أن تترجم هذه المكاسب إلى زيادة ملموسة في رواتب العمال، مما يوسع فجوة الدخل.

هذا الواقع الاقتصادي هو ما يفسر صعود خطاب يدعو إلى تدخل حكومي أكبر، ويتجسد هذا الخطاب في الأجندة الاقتصادية لمرشحين فائزين مثل زهران ممداني، عمدة نيويورك الجديد.

وقد أثارت خطط ممداني ردود فعل حادة من “وول ستريت” وطبقة الأثرياء، حيث وعد بفرض المزيد من الضرائب على الأغنياء والشركات الكبرى (مثل رفع معدل ضريبة الشركات إلى 11.5% وضريبة ثابتة بنسبة 2% على أغنى 1% من السكان) لتمويل برامج اجتماعية موسعة. وتشمل هذه البرامج: تجميد الإيجارات، ورعاية الأطفال المجانية، والنقل العام المجاني، وبناء المساكن للفقراء. هذا النهج يضع الإدارة الجديدة في مواجهة مباشرة مع اللوبي الاقتصادي الذي عارض فوزه بشدة، مما يؤكد أن الصراع الاقتصادي حول إعادة توزيع الثروة هو المحرك الأساسي للتحول السياسي الحالي.

 

العجز المالي والديون الفيدرالية: خطر يهدد الأسواق

لا تقتصر التحديات على مستوى الأسر، بل تمتد إلى المالية العامة للدولة. تعاني الولايات المتحدة من عجز مالي يقارب 7% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو مستوى مرتفع تاريخياً في أوقات السلم. كما أن تكاليف خدمة الدين آخذة في الارتفاع بسبب عوائد السندات المرتفعة، مما يحوّل جزءاً متزايداً من الميزانية الفيدرالية من الإنفاق على الخدمات العامة والاستثمار إلى سداد الفوائد.

هذا الوضع المالي يثير قلق المؤسسات المالية، التي تتابع عن كثب التطورات الضريبية والمالية، حيث يمكن أن يؤدي أي غموض ضريبي أو استمرار في الإنفاق غير المنضبط إلى توترات في أسواق السندات وزيادة الضغط التضخمي.

 

خلاصة: الاقتصاد يُعيد صناعة السياسة

ما يجري في الولايات المتحدة اليوم هو إعادة تموضع اقتصادي أكثر منه انقلاب سياسي. فالناخب الأمريكي يرسل رسالة واضحة: نريد إسكاناً ميسوراً، ووظائف برواتب حقيقية، وضرائب عادلة، وخدمات عامة قوية.

إن هذه اللحظة الفارقة تفرض على الإدارة المقبلة – أياً كانت-  تبني أجندة اقتصادية واقعية تضع المواطن قبل وول ستريت. وإذا لم تتمكن من معالجة هذا الاختلال الهيكلي، فإن الاقتصاد الأمريكي قد يدخل مرحلة اضطراب جديدة تشمل تصاعداً تضخمياً، وضعفاً في الطلب المحلي، واضطراباً اجتماعياً يقود إلى موجات سياسية أوسع. إنها دعوة للسياسيين لقراءة الأرقام قبل قراءة الخطابات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى